فصل: الحكم السادس: هل تشترط في الشهود العدالة؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ج- المذهب الثالث: مذهب الذين فرقوا بين أن يجمعهم في كلمة واحدة مثل أن يقول لهم: يا زناة أو يقول لكل واحد يا زاني. ففي الصورة الأولى يحد حدًا واحدًا، وفي الثانية عليه لك واحد منهم حد، وهو مذهب ابن أبي ليلى، والشعبي.
دليل الجمهور: احتج أبو بكر الرازي على قول الجمهور بالكتاب والسنة، والقياس.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {والذين يَرْمُونَ المحصنات} والمعنى أن كل من رمى المحصنات وجب عليه الجلد وذلك يقتضي أن قاذف الجماعة من المحصنات لا يجلد أكثر من ثمانين فمن أوجب على قاذف جماعة المحصنات أكثر من حد واحد فقد خالف الآية.
وأما السنة: فما روي عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «البينة أو حد في ظهرك» فلم يوجب النبي على هلال إلا حدًا مع أنه قذف زوجته وقذف معها شريك ين سحماء.
وأما القياس: فهو أن سائر ما يوجب الحد إذا تكرر منه مرارًا لم يجب إلا حد واحد، كمن سرق مرارًا، أو شرب الخمر مرارًا، لم يحد إلا حدًا واحدًا فكذا هاهنا.
أدلة الشافعية:
وأجاب الشافعية عن الأول بأن قوله: {والذين} صيغة جمع، وإذا قوبل الجمع بالجمع اقتضى القسمة على الآحاد، فيصير المعنى: كل من رمى محصنًا واحدًا وجب عليه الحد.
وأجابوا عن الثاني بأنه قذفهما بلفظ واحد وقد قال الشافعي- في القديم- لا يجب إلا حدٌ واحدٌ اعتبارا ً باللفظ.
وأجابوا عن القياس بأنه قياس مع الفارق فإن حد القذف حق الآدمي، بخلاف حد الزنى والشرب فإنه حق الله تعالى وحقوق الآدمي لا تتداخل.
الترجيح: والصحيح الراجح هنا هو رأي الجمهور لقوة أدلتهم لأنه لو قذف قبيلة فأقمنا عليه لكل واحدٍ حدًا هلك، والله أعلم.

.الحكم السادس: هل تشترط في الشهود العدالة؟

لم تذكر الآية الكريمة في صفة الشهداء أكثر من أنهم أربعة رجال من أهل الشهادة وللعلماء خلاف في أهل الشهادة من هم؟ فالشافعية يقولون: لابد للشاهد أن يكون عدلًا، والحنفية يقولون: الفاسق من أهل الشهادة وعلى هذا تظهر ثمرة الخلاف؛ فإذا شهد أربعة فساق على المقذوف بالزنى فهم قذفةٌ عند الشافعية يحدون كما يحد القاذف الأول، والحنفية يقولون: لا حد على القاذف لأنه أتى بأربعة من أهل الشهادة، إلا أن الشرع لم يعتبر شهادتهم لقصور في الفاسق فثبت بشهادتهم شبهة الزنى فيسقط الحد عنهم وعن القاذف، فكما اعتبرنا التهمة في نفي الحد عن المشهود عليه، فكذلك وجب اعتبارها في نفي الحد عنه وعن الشهود.
وجه قول الشافعي رحمه الله: أنهم غير موصوفين بالشرائط في قبول الشهادة فخرجوا عن أن يكونوا شاهدين وبقوا محض قاذفين فيحدون حد القذف.
وقد ارجح ابن تيمية رحمه الله رأي الأحناف ودفع الحد عن الشهود. لوجود الشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات، كما وضَّحت ذلك السنَّة المطهرة.

.الحكم السابع: هل يشترط في الشهود أداؤهم للشهادة مجتمعين؟

ظاهر الآية الكريمة أنه لا فرق بين أن يؤدي الشهود شهادتهم مجتمعين أو متفرقين، وهذا مذهب مالك والشافعي رحمهما الله أخذًا بظاهر الآية.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا جاءوا متفرقين فعليهم حد القذف، ولا يسقط الحد عن القاذف.
حجة مالك والشافعي: أن الآية لم تشترط إلا أن يكونوا أربعة، ولم تَشْرط أداؤهم للشهادة مجتمعين، فيكفي في الشهادة كيفما اتفق مجتمعين، أو متفرقين، بل إن شهادتهم متفرقين أبعدُ عن التهمة، وعلى القاضي أن يفرقهم إذا ارتاب من أمرهم ليظهر له وجه الحق في أدائهم للشهادة هل هم صادقون أم كاذبون؟
حجة أبي حنيفة: أما حجة أبي حنيفة فهي أن الشاهد الواحد لما شهد بمفرده صار قاذفًا فيجب عليه الحد وكذلك الثاني والثالث، ولا خلاص من هذا الإشكال إلا باشتراط الإجتماع.. واستدل بحادثة المغيرة بن شعبة لما شهد عليه أربعة وخالف أحدهم في الشهادة جلدهم عمر وستأتي قصتهم قريبًا إن شاء الله تعالى.

.الحكم الثامن: هل عقوبة العبد مثل عقوبة الحر؟

اتفق الفقهاء على أن العبد إذا قذف الحر المحصن وجب عليه الحد، ولكن هل حده مثل حد الحر، أو على النصف منه؟ لم يثبت حكم ذلك في السنة المطهرة ولهذا اختلف الفقهاء فيه فالجمهور وهو مذهب الأئمة الأربعة على أن العبد إذا ثبت عليه القذف، فعقوبته (40) أربعون جلدة، لأنه حد يتنصف بالرق مثل حد الزنى، واستدلوا بقوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25] وذهب الأوزاعي وابن حزم وهو مذهب الشيعة إلى أنه يجلد (80) ثمانين جلدة، لأنه حد وجب صيانة لحق الآدميين إذ أن الجناية وقعت على عرض المقذوف، والجناية لا تختلف بالرق والحرية.
ومن أدلة الجمهور ما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال أدركت أبا بكر وعمر وعثمان ومن بَعدهَم من الخلفاء وكلهم يضربون المملوك في القذف أربعين جلدة.. وعن علي كرم الله وجهه أنه قال يجلد العبد في القذف أربعين.
قال ابن المنذر: والذي عليه الأمصار القول الأول أي قول الجمهور وبه أقول.
وردّ الجمهور بأن آية القذف خاصة بالأحرار، فالحر إذا قذف محصنًا حد ثمانين جلدة، وأما العبد فحده أربعون، فقاسوا القذف على حد الزنى، والله تعالى أعلم.

.الحكم التاسع: هل الحد حق من حقوق الله أو من حقوق الآدميين؟

ذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن الحد حق من حقوق الله ويترتب على كونه حقًا من حقوق الله تعالى ما يلي:
أ- أنه إذا بلغ الحاكم وجب عليه إقامة الحد وإن لم يطلب المقذوف.
ب- لا يسقط بعفو المقذوف عن القاذف، وتنفع القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى.
ج- يتنصف فيه الحد بالرق مثل الزنى.
وذهب الشافعي ومالك إلى أنه حق من حقوق الآدميين ويترتب عليه ما يلي:
أ- أن الإمام لا يقيمه إلا بطلب المقذوف.
ب- يسقط بعفو المقذوف عن القاذف.
ج- إذا مات المقذوف قبل إقامة الحد فإنه يورث عنه، ويسقط بعفو الوارث.
ويرى بعض الفقهاء أن حد القذف فيه شائبة من حق الله. وشائبة من حق العبد، ومما لا شك فيه أن في القذف تعديّا على حقوق الله تعالى، وانتهاكًا لحرمة المقذوف، فكان في شرع الحد صيانةً لحق الله، ولحق العبد فيكون الحد مزيجًا منهما... ولعلَّ هذا الأرجح والله تعالى أعلم.

.الحكم العاشر: هل تقبل شهادة القاذف إذا تاب؟

حكم القرآن على القاذف بثلاثة أحكام:
الأول: أن يجلد ثمانين جلدة.
والثاني: أن لا تقبل له شهادة أبدًا.
والثالث: وصفة بالفسق والخروج عن طاعة الله تعالى.
ثم عقّب الباري جل وعلا بعد هذه الأحكام الثلاثة بما يدل على الاستثناء فقال: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قد اختلف الفقهاء في هذا الاستثناء هل يعود إلى الجملة الأخيرة فيرفع عنه وصف الفسق ويظل مردود الشهادة؟ أم أن شهادته تقبل كذلك بالتوبة؟ على مذهبين:
أ- مذهب أبي حنيفة: أن الاستثناء راجع إلى الجملة الأخيرة {وأولئك هُمُ الفاسقون} فيرفع عنه وصف الفسق إذا تاب ولكن لا تقبل شهادته. ولو أصبح أصلح الصالحين، وهذا المذهب مروي عن الحسن البصري والنخعي وسعيد بن جبير وغيرهم من فقهاء التابعين.
ب- مذهب الجمهور مالك والشافعي وأحمد أن الاستثناء راجع إلى الجملتين الأخيرتين {وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وأولئك هُمُ الفاسقون} فإذا تاب قبلت شهادته ورفع عنه وصف الفسق وهذا المذهب مروي عن عطاء وطاووس ومجاهد والشعبي وعكرمة وغيرهم من علماء التابعين وهو الذي اختاره ابن جرير الطبري رحمهم الله أجمعين.
وهذا الاختلاف بين الفقهاء مردّه إلى قاعدة أصولية: وهي: هل الاستثناء الوارد بعد الجمل المتعاطفة بالواو يرجع إلى الكل أو إلى الأخير؟ فالشافعية والمالكية يرجعونه إلى الجميع، والأحناف يرجعونه إلى الأخير فقط والمسألة تطلب من كتب الأصول وليس هذا محل تفصيلها.
أدلة الأحناف:
استدل الأحناف على عدم قبول شهادة القاذف مطلقًا بما يلي:
أولًا: إن الاستثناء لو رجع إلى جميع الجمل المتقدمة لوجب أن يسقط عنه الحد وهو الجلد ثمانين جلدة، وهذا باطل بالإجماع، فتعَيّن أن يرجع إلى الجملة الأخيرة فقط.
ثانيًا: إن الله تعالى قد حكم بعدم قبول شهادته على التأبيد {وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} فلفظ الأبد يدل على الدوام والاستمرار حتى ولو تاب وأناب وأصبح من الصالحين، وقبول شهادته يناقض هذه الأبدية التي حكم بها القرآن.
ثالثًا: ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المسلمون عدول بعضهم على بعض إلاّ محدودًا في قذف» فإنه يدلّ على أن القاذف لا تقبل شهادته إذا حُدّ في القذف.
أدلة الجمهور:
وأما الجمهور فقد استدلوا على قبول شهادته بما يلي: أولًا: قالوا: إنّ التوبة تمحو الذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فوجب أن يكون القاذف بعد التوبة مقبول الشهادة.
ثانيًا: إنّ الكفر أعظم جرمًا من القذف، والكافر إذا تاب تقبل شهادته فكيف لا تقبل شهادة المسلم إذا قذف ثم تاب؟ وقد قال الشافعي رحمه الله: عجبًا يقبل الله من القاذف توبته وتردُّون شهادته.
ثالثًا: ما روي في حادثة المغيرة بن شعبة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب الحد الذين شهدوا على المغيرة وهم أبو بكر، ونافع، ونفيع حين قذفوه ثم قال لهم من أكذب نفسه قبلتُ شهادته ومن لم يفعل لم أجز شهادته، فأكذب نافع ونفيع أنفسهما وكان عمر يقبل شهادتهما، وأما أبو بكرة فكان لا يقبل شهادته ولم ينكر عليه أحد من الصحابة.
رابعًا: وقالوا: إن الاستثناء في الآية الكريمة كان ينبغي أن يرجع إلى الكل ولكن لما كان الجلد ثمانين من أجل حق المقذوف وكان هذا الحق من حقوق العباد لم يسقط بالتوبة، فبقي رد الشهادة والحكم بالفسق وهما من حق الله فيسقطان بالتوبة.
يقول العلامة المودودي في تفسير سورة النور بعد أن ساق أدلة الفريقين:
فرأيُ الطائفة الأولى هو الأرجح عندي في هذه القضية فإن حقيقة توبة المرء لا يعلمها إلا الله. ومن تاب عندنا فإن غاية ما لنا أن نجامله به هو أن لا نسميه الفاسق ولا نذكره بالفسق وليس من الصحيح أن نبالغ في مجاملته، حتى نعود إلى الثقة بقوله لمجرد أنه قد تاب عندنا في ظاهر الأمر.
وزد على ذلك أن أسلوب عبارة القرآن بنفسه يدل دلالة واضحة على أن العفو المذكور في جملة {إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ} إنما يرجع إلى جملة {وأولئك هُمُ الفاسقون} لأن جلد القاذف ثمانين جلدة وعدم قبول شهادته جاء ذكرهما في العبارة بصيغة الأمر {فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} وجاء الحكم عليه بالفسق بصيغة الخبر {وأولئك هُمُ الفاسقون} فإذا جاء قوله تعالى: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} بعد هذا الحكم الثالث مقترنًا به فهو يدل بنفسه على أن هذا الاستثناء إنما يرجع إلى الجملة الخبرية الأخيرة ولا يرجع إلى جملتي الأمر الأوليين.. وليست التوبة عبارة عن تلفظ الإنسان بها باللسان بل هي عبارة عن شعوره بالندامة واعتزامه على إصلاح نفسه، ورجوعه إلى الخير، وكلّ ذلك مما لا يعلم حقيقة إلا الله، ولأجل هذا فإنه لا تغتفر بالتوبة العقوبة الدنيوية وإنما تغتفر بها العقوبة الأخروية فحسبُ... ومن ثمة فإن الله تعالى لم يقل: إلا الذين تابوا وأصلحوا فاتركوهم أو خلوا سبيلهم أو لا تعذبهم بل قال: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فإنه لو كانت العقوبات الدنيوية أيضًا تغتفر بالتوبة فمن ذا الذي ترونه من الجناة لا يتوب اتقاء لعقوبته.
مذهب الشعبي والضحاك: وهناك مذهب وسط بين المذهبين هو مذهب الشعبي والضحاك فقد قالا: لا تقبل شهادة القاذف وإن تاب إلا أن يعترف على نفسه أنه قال البهتان فيما قذف فحينئذ تقبل شهادته، قال شهيد الإسلام سيد قطب عليه الرحمة والرضوان: وأنا اختار هذا المذهب الأخير لأنه يزيد على التوبة إعلان براءة المقذوف باعترافٍ مباشر من القاذف وبذلك يُمْحَى آخرُ أثرٍ للقذف.
أقول: وهذا المذهب الذي اختاره سيد قطب تبدو عليه مخايل الجودة والإنصاف ويحقق العدل بين جميع الأطراف القاذف والمقذوف فلا يَظْلم أحدًا منهما ولا يضيع حق الله، ولا حق العبد... فلعله يكون الأرجح والله تعالى أعلم.